تريَّثتُ كثيرًا قبل أن أحمل قلمي وأخطَّ على الورقِ الأبيضِ قصصًا سوداء أدمت القلوب ومزَّقت شرايين الإنسانيَّة المغتصبة. تريَّثتُ كثيرًا قبل أن أغضب، قبل أن أحزن، قبل أن أدمع… فالحزنُ بات لقمةً نغمِّسُها كلَّ يومٍ في صحوننا، والدَّمع طافَ من العين لنجرعه في كؤوسنا. أمَّا الغضب… فما زال صامتًا… صامتًا… صامت!
لن أكتب اليوم عن روي، فما قيل عنه كفيلٌ بالتعريف عن شاب عشرينيّ “آدمي” قلَّ نظيره. سأكتبُ اليوم عنِّي وعنكِ وعنكَ وعنكم… سأكتبُ عن جثثٍ متنقِّلة تنتظرُ لحظة قيام أحد الزعران بإسقاطها أرضًا لتوارى الثَّرى، بعدما دُفِنَت حيَّةً في بلدٍ شبِّه ببلد! سأكتبُ عن غابةٍ لا تزالُ أسودها تفترس الغزلان الوديعة من دون حسيبٍ أو رقيب، وسأكتبُ عن مرتزقةٍ تسرحُ وتمرح تحت عيون من ترَّبعوا على عروشهم في القصور والوزارات والمكاتب… فما همُّهم إن رُقِّصنا في صناديق بيضاء طالما أنَّ أولادهم يتبخترون على الشان إليزيه أو يحتسون القهوة في مقاهي فيينا وفينيس الرُّومنسيَّة؟ ما همُّهم إن حُرِقت أفئدة أمَّهاتنا وكُسِر ظَهرُ آبائنا لمدى الحياة، طالما أنَّهم بخير، يمرُّون في مواكب تدفعنا خارج الأوتوستراد لتمرّ؟ ما همُّهم إن جثت أمِّي ترجوني ألَّا أخرج من المنزل لأنَّها لا تريد أن تخسرني…
لا… لا أريد أن أبنيَ بلدًا، جلَّ ما أريده هو أن أعيش! أوقفوا سمفونيَّات التملُّق بالقول أنَّنا جيلُ التَّغيير وأنتم ملتصقون على كراسيكم المهترئة… أريدُ أن أعيش في وطني بكرامة… ولكنَّني أعتقد أنَّ هذا الحقّ البسيط بات محرَّمًا عليَّ!
جلستُ البارحة أمام المصلوب أفكِّر بقيمة حياتي في عينيه، هو الَّذي قرَّر الموتَ طوعًا لأحيا. ثمَّ رحتُ أفكِّر بقيمة حياتي في هذا البلد، فوجدتُ أنَّ لا قيمة لها… سرح فكري إلى الماضي البعيد حين كنتُ أعاتب رفاقي الَّذين “هجُّوا” من لبنان، وعدتُ لومضاتٍ زمنيَّةٍ إلى الحاضر وأنا على قاب قوسين أو أدنى من تحضير حقيبتي والرَّحيل من دون التَّفكير حتَّى بالعودة لقضاء فصل الصَّيف. ولماذا أعود؟ لكي أستفيد من قرب مسافة الجبل من البحر، مسافة يمكن لأحد الغلمان أن يرديني عليها قتيلة؟ أو لكي أنام بفيءِ أرزةٍ مجروحةٍ تبكي دمًا على شبيبتها؟
أيا صاحب الفخامة،
تريَّثتُ قبل أن أكتبَ إليكم لكنَّني اليوم مذبوحة القلبِ، مجروحة الكلماتِ ومهانة الكرامة…
نعم، لم أكن يومًا من الدَّاعمين لسياستك، لكنَّني وليشهد الله على كلامي، كنتُ من أشدِّ المؤمنين بقدرة عهدك على قلبِ المقاييس… أرجوكَ أن تفرغ حقيبتي وتبقيني هنا… أرجوك أن توقف شريعة الغاب هذه… أرجوك يا “بيّ الكل”… لا أريدُ أن أُزفَّ عروسًا في نعشٍ أبيض!
اترك رد